من أسباب شرح الصدور: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان. فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا، وأطيبهم نفسا، وأنعمهم قلبا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا، وأنكدهم عيشا، وأعظمهم هما وكما، وقد ضرب رسول الله في الصحيح مثلا للبخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، حتى يجر ثيابه ويعفى أثره، وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقة مكانها، ولم تتسع عليه. فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل وانحصار قلبه
تضمن القرآن لأدوية القلب ، و علاجه من جميع أمراضه ( من درر ابن القيّم )
قال العلامة ابن القيّم رحمه الله:
قال الله عز وجل : ( يا أيّها النّاس قد جاءتكم موعظة من ربّكم و شفاء لما في الصُّدُور ) (1) و قال تعالى : ( و نُنزِّلُ من القُرآن ما هو شِفَاءٌ و رحمةٌ للمؤمنين ) (2) وقد تقدم أنّ جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات و الشهوات . و القرآن شفاءٌ للنوعين . ففيه من البيِّنات و البراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل ، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم و التصور و الإدراك ، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه ، و ليس تحت أديم السَّماء كتابٌ متضمنٌ للبراهين و الآيات على المطالب العالية : من التوحيد ، و إثبات الصفات ، و إثبات المعاد و النبوات ، و رد النحل الباطلة و الآراء الفاسدة ، مثل القرآن ، فإنّه كفيل بذلك كله ، متضمنٌ له على أتم الوجوه و أحسنها ، و أقربها إلى العقول و أفصحها بيانا . فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشُبه و الشكُوك ، و لكن ذلك موقوفٌ على فهمه و معرفة المراد منه . فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق و الباطل عيانا بقلبه ، كما يرى الليل و النهار ، و علم أنّ ما عداه من كتب الناس و آرائهم ومعقولاتهم : بين علومٍ لا ثقة بها ، و إنّما هي آراء و تقليد ، و بين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئا و بين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها ، و بين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها ، و أطالوا الكلام في إثباتها ، مع قلة نفعها . فهي: (لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ، و لا سمين فينتقل (4)). و أحسن ما عند المتكلمين و غيرهم فهو في القرآن أصح تقريرا و أحسن تفسيراً ، فليس عندهم إلا التكلف و التطويل و التعقيد ....
إلى أن قال رحمه الله :
(و أما شفاءه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة و الموعظة الحسنة بالترغيب و الترهيب ،و التزهيد في الدنيا ، و الترغيب في الآخرة ، و الأمثال و القصص التي فيها أنواع العبر و الاستبصار ، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك في ما ينفعه في معاشه ومعاده ، و يرغب عما يضره ، فيصير القلب محبًا للرشد ، مبغضاً للغيِّ . فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة ، فيصلح القلب ، فتصلح إرادته ، و يعود إلى فطرته التي فطر عليها ، فتصلح أفعاله الإختيارية الكسبية ، كما يعود البدن بصحته و صلاحه إلى الحال الطبيعي ، فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق ، كما أنّ الطفل لا يقبل إلا اللبن . وعاد الفتى كالطفل ، ليس بقابلٍ سوى المحض (4) شيئا ، و استراحت عواذله
فيتغذى القلب من الإيمان و القرآن بما يزكيه و يقويه ، و يؤيده و يفرحه ،و يسره و ينشطه ، و يثبت ملكه ، كما يتغذى البدن بما ينميه و يقويه . و كلٌ من القلب و البدن يحتاج إلى أن يتربى فينمو و يزيد ، حتى يكمل و يصلح ، فكما أنّ البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له و الحمية عما يضره ، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ، و منع ما يضره ، فكذلك القلب لا يزكو و لا ينمو ، و لا يتم صلاحه إلا بذلك ، و لا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن ، و إن وصل إلى شيء من غيره فهو نزر يسير ، لا يحصل له به تمام المقصود ، و كذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين ، فحينئذ يقال : زكا الزرع و كمل . ولما كانت حياته و نعيمه لا تتم إلا بزكاته و طهارته لم يكن بُدٌ من ذكر هذا و هذا....).
وقال أيضا في نفس الكتاب:
في علامات مرض القلب و صحته
...... ومرض القلب :أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله و محبته و الشوق إلى لقائه ، و الإنابة إليه ، و إيثار ذلك على كل شهوة ، فلو عرف العبد كل شيء و لم يعرف ربه ، فكأنما لم يعرف شيئاً ، و لو نال كل حظ من حظوظ الدنيا و لذاتها و شهواتها و لم يظفر بمحبة الله ، و الشوق إليه ، و الأنس به . فكأنه لم يظفر بلذة و لا نعيم و لا قرة عين ، بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ و اللذات عذابا له و لا بد ، فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين :من جهة حسرة فوته ، و أنه حيل بينه و بينه ، مع شدة تعلق روحه به ، ومن جهة فوت ما هو خير له و أنفع و أدوم ، حيث لم يحصل له ، فالمحبوب الحاصل فات ، و المحبوب الأعظم لم يظفر به ، و كل من عرف الله أحبه ، و أخلص العبادة له و لا بدّ ، و لم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات ، فمن آثر عليه شيء من المحبوبات فقلبه مريض ، كما أنّ المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث و آثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب ، و تعوضت بمحبة غيره.
و قد يمرض القلب و يشتد مرضه ، و لا يعرف به صاحبه ، لاشتغاله و انصرافه عن معرفة صحته و أسبابها ، بل قد يموت و صاحبه لا يشعر بموته ، و علامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، و لا يوجعه جهله بالحق و عقائده الباطلة ، فإنّ القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه ، و تألم بجهله الحق بحسب حياته.
وقال أيضا رحمه الله :
( و المقصود : أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة ، و عدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار ، فهنا أربعة أمور : غذاء نافع و دواء شاف ، و غذاء ضار ، و داء مهلك . فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي ، و القلب المريض بضد ذلك. و أنفع الأغذية غذاء الإيمان ، و أنفع الأدوية القرآن ، و كل منهما فيه الغذاء و الدواء .
ومن علامات صحته أيضا : أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ، و يحل فيها ، حتى يبقى كأنه من أهلها و أبنائها ، جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته ، و يعود إلى وطنه ، كما قال عليه الصلاة و السلام لعبد الله بن عمر : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، و عد نفسك من أهل القبور "
فحي على جنات عدن فإنها ....منازلك الأولى و فيها المخيم
و لكننا سبي العدو ، فهل ترى ..... نعود إلى أوطاننا و نسلم ؟
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " إنّ الدنيا قد ترحلت مدبرة ، و إن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، و لكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، و لا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل و لا حساب ، و غدا حساب و لا عمل " .
و كلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة و قرب منها حتى يصير من أهلها ، وكلما مرض القلب و اعتل آثر الدنيا و استوطنها ، حتى يصير من أهلها .)
(1) سورة يونس : 57
(2) سورة الإسراء : 82
(3) جزء من حديث أم زرع أخرجه البخاري (7/35) ، ومسلم (2448) مختصرا ، و الترمذي (136) في الشمائل .
(4) اللبن المحض : الخالص السائغ .
المصدر كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان الجزء الأول ص : ( 50/51/52) ...
التعليقات
ان القرآن كلام الله . وأصل
ان القرآن كلام الله . وأصل الأمراض المعصية .عندما عصى آدم تكشفت له عورته أي هن شعورا بالدنب خالجه .فكيف ازاح الله عنه دلك تلقى آدم كلمات من ربه فكانت الراحة النفسية وكان السلام.
إضافة تعليق